الاثنين، 17 سبتمبر 2018

قضية و موقف: طاحونة الموت...

قضية و موقف:
طاحونة الموت...
*/*مدونة"فضاء الأطلس المتوسط"/آزرو-محمد عبيد*/*
في زُحمـة الحيــاة وتـَلاحُـقِ مُـتـطلــَبـاتِهـا، الـّتي لا تنتـهي، قلــّمـا تجـُـود عليـنـا أيّـامُنـا، المُهـروِلـة بلا كثيـرِ معـنـى نحـو الأمام، بلحظـات صفـاء نفـارق فيهـا "بـُرودة" الإسمنـت...
فقد كثر القتل وازداد، وعظمت الجرائم واشتدت المعاناة، وحالات القتل قد تضاعفت، وانتشر الموت في كل مكان، وعم كل البلاد، وما استثنى الموتُ من حممه الأطفال والنساء ولا الشيوخ، بل دمر المنازل والبيوت، وخرب كل شيء مما كان للإنسان، ومما عمّر به الوطن، وما زالت طاحونة الموت تدور، تحصد أرواح الآمنين، وتقتل المواطنين، ممن يسألون الله في كل الأيام أن يرحمهم، وأن يحفظ بلادهم، ويعيد إليهم حقوقهم.
كما سادت الفوضى أوطاننا، وتآمر على الحق رجالنا، وتحالف مع العدو بعض أهلنا، وانقلب فريقٌ على الشرعية، وخالف نتائج الديمقراطية، وأعلن الحرب على فئةٍ من الأمة، بلا ذنبٍ ارتكبته...
فلا رحمة علينا، ولا شفقة على أوضاعنا، بل لؤم الاحتلال، ونهم التجار، وجشع أصحاب رأس المال... 
إهانة الآخر في مجتمعنا أصبح فنا نتقنه، ونطوره ونحسنه، نرثه ونورثه، نعلمه لأطفالنا، وينشأ عليه شبابنا، ونحاسب أنفسنا إن قصرنا في رد الإساءة، أو عفونا عن مقدرة، أو سامحنا عن إرادةٍ لا عجز، أو تجاوزنا عن رغبةٍ ومحبة، فلا مكان عندنا للصفح الجميل، ولا للكلمة الرقيقة، ولا للابتسامة الجميلة، ولا للفتة الحلوة، ولا قدرة عندنا على الاستيعاب وكظم الغيظ والعفو عن الناس، غضبنا كالبركان، يحرق ويدمر ويخرب، يثور فجأة، وتتصاعد حممه بسرعة، وتعلو ألسنته كالشياطين، ولساننا كالبندقية الآلية، سريعُ الطلقات لا يتوقف ولا يتعثر، ولا يستريح ولا يستكين، وشياطيننا حاضرة، جاهزة ومستعدة، من الإنس والجن على السواء، كلاهما يتبارى مع الآخر، أيهم يكون أسرع غضباً، وأشد لعناً، وأقسى وجعاً وإيلاماً... 
في المغـرب أمـاكـنُ كثيـرة تستحـقّ أن نهـرُبَ روتيـنَ أيّـامنـا نحو أحضانِهـا السّخيّـة لاكتشـاف سحر طبيعتـها والاستمتـاع به والتـّعـرّف إلى نـاسِها الحقيقيين...  لكنـّنـا نتـرك هـذا الامتيـّـاز للغـُربـاء، لنـنـشغـل نحـنُ بمُطـارَدة مُـتـطلـّبـاتٍ لا تنتهـي في زمـنٍ مُهـرولٍ بـلا مَعـنـى -بـلا مَـعــانٍ- لِمَ لا نسـأل هـؤلاء الذين يهرُبون أزمانـَهُـم المُتـسارِعة هنـاك، في بُـلدانِهـم البـاردة، ويتنافسون في الإيغال في جغرافيانـا الخلفيّة الرّائعة!...
كـمْ يكـون صعـْبـاً أن تجـد فجـوة، ولـو ضيّقـة، في زمنـِنـا اللاهـث هـذا، للهـُروب مـن اليـوميِّ الجـاثم على صـدْرك بمسؤولية ثقيلـة اسمُهـا ضـرورة توفيـر مُـتـطلبات الحيـاة الصّعْبـة، التي فرضهـا عليـك السّعـي وراء "طـْرفْ ديـالْ الخْـبـزْ"!...
لكـنْ حيـن تتـأتـّى هـذه الفجـوة، ويتـخلـّص الواحـدُ منـّا من مشـاغله، التـي لا تنتـهـي...  
حين تـهـرُب (أنـتَ، أنـا ونحـنُ) بعيـداً عـن ضجيـج المديـنـة وتنسَـلّ إلى أمـاكنَ في العُمقِ المغـربيّ، الجميـل، وتـُتيـح لنفسـِك فرصـة استـرجـاع الأنفـاس مـن ضغـط اليـوميّ الخـانق...
حيـن تصعـد نحـو لحظـاتٍ صادقـة مـع النـّفس، بعيـداً عـن زحمـة الشّـوارع الضّاجّـة والفضاءاتِ المُلـوَّثـة والعقـولِ المجنـُـونـة..
حيـن تصيـرُ (أصيـرُ ونصيـر) رفقـة الطـّبيـعـة العـذراءِ، السّعيـدة في صمتـهـا، الـّذي لا يخـدشـُه إلاّ خـريرُ ميـّـاهٍ منسـابةٍ في صفـاء لا يُضـاهيـه غيرُ صفـاءِ الأمكنـة والنـّاس أو هبـّـةُ ريحٍ لطيفـةٌ أو صـوتُ طـائـرٍ، وحيـدٍ أو رفقـة سـربٍ..
حينـذاك، تشعـُـر كـمْ هيّ الحيـاة قاسيـّـة وغيـرُ رحيـمـة بك (وبكثيـريـن مثلـك ولا شكّ) وهي تحـْرِمُك (وتحـرمهـم) متعـة الاختـلاء إلى النـّفسِ والتـوقـّـفِ، ولـو سـاعـاتٍ، عـن اللـّهــاث خلـْفَ سـرابِ اسمُـه الآتـي، اسمُه المُستقبَـل...
حيـن تحضنـُك الطـّبيـعة، بنقـائهـا الأبـديّ، وتنتـشلـُـك مـن أوهـامِك الحمقـى، ومن حسـابـاتِك، الّتـي لا تنتـهي، في وضعِ الخطـط والإستـراتيجيّـات، القـاصـرة لـو تدري، لمُجـابهـة حيـاة جـامحـة، ضاغطـة، مُستـفِـزّة، سـاخرة مـن أحـلامـك التـّـافهـة..
حينـذاك، تشعـرُ كـم أنت ضئيـلٌ، وكـم هـي بَلهـاءُ كـلُّ انشغـالاتك بتحسين ظروف الحيـاة وبنـاء مجـدٍ و/أو أمجـادٍ شخصيـةٍ صغيـرة...
حيـن تـُجـالسُ أشخـاصـاً حقيقيّيـن، نفـوسـاً خـامـاً، مُجـرَّدة مـن كلّ الحسـابات الفـردية الضيّقـة، مِـن التـّطـاحُن اليـومّي على دروب الحيـاةِ مـن أجْـلِ غـدٍ قـد يكـون أفضـلَ وقـد لا يكـون..
حيـن تستمـع إلى نبض الحيـاة الجمـاعيّـة وتطلـّـُعـاتِ أنـاسٍ بسطـاءَ يُـوزّعـُـون، ذاتَ اليميـن وذاتَ الشّمـال، وبلا حساب أو "تخطيط"ابتسـامـاتٍ خـالصـةً، غيـرَ مدفـُـوعـة الثـّمن، تشـي بنقـاء الـرّوح وصفـاءِ السـّريـرة وبغيـابٍ تــامٍّ، وجمـاعيٍّ، لشيءٍ تـافـِهٍ لا يُعشـّشُ في غيـر دمـاغـِك وأدمغـة أمثـالِك ممّن سلبتـْهـُم روعـةَ الحيـاة ونكهتـَهـا مَشـاغلُ مريضـة وهـوَسٌ غيـرُ مُبـرَّرٍ...
حينـذاك تشعـُـرُ أنّ المديـنـة قـد سلبتـْك الكثيـرَ مـن صدقـك، مـن إنسـانيـّتـك ومـن حقيقتـِك، الـّتي طمـرتـْهـا جـدرانُ البنـايـاتِ الشـّاهقـة في مُـدنٍ إسمنتيـّة بـاردة صـرتَ، بيـن مُنعـرجـاتِهـا المُلتـويـّة وضغـوطِهـا الخـادعـة، غيـرَ نفسِك...  
فحيـن تـكـُـون عـاطـلاً (بـل مُعـطـّــَلاً) تـمـَـلّ كـُـلّ الأسفـارِ وتـعتـبرُهـا مُجـرّدَ عبثٍ لا يفـوقــُه عبــث، فكـُلّ أيـامِك سـَفـَـرٌ لا مُنتـَهٍ في الفـراغِ وبحـثٌ عـن الذاتِ في عـالـَمٍ لا يـرحـَمُ، إلى درجـةِ أنـّه يُصَيّـِرُ لحـظـاتٍ جميلـة في نظـرِك سـوداءَ لن تـزيدَ لـونَ أيّـامِك إلا قتـامـة وحُلكـة.. أمـا حين يحـدُث وتـجـد عمـلاً فلـْيَسكـُنـْـكَ اليقـيـنُ: لـن تـجـدَ وقتـاً "تـحُـكّ فيه رأسَـك"، وفق المـأثـورةِ الشّعبيّـة السّـائرة..
تشـْعـر أنـّك فقـَدْتَ، بشكـْلٍ من الأشكـال، غيـْرَ قليـلٍ مـن حقيقتـِك... الكثيـرَ مِـنْ أنـتَ!..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق