*/*مدونة"فضاء الأطلس المتوسط"/آزرو- محمد عبيد*/*
نصادف في عالمنا المعاصر أن هناك مجتمعات تخاف -بدرجة أساسية- من طرح سؤالين يبتدئ كل واحد منهما ب“لماذا؟” و“كيف؟”، ثم تدعي هذه المجتمعات بغير منطقيّة أنها تسعى وراء المعرفة والعلم!...
ومن خلال هذه المعُضلة تحديدًا هناك مجتمعات كثيرة تُقسّم فئاتها إلى “مثقفين /وآخرين من عامة الشعب”... رغم أن هذا المعنى لا يستقيم، لأن (بنظر المجتمع)، المثقفون هم الذين خرجوا عن السائد، الذي بالضرورة يُكبل افرداه عن المعرفة والوعي، ثم يتذمر بكل بجاحة أننا مجتمع يعاني الفُقر والمشاكل والأمراض والانحطاط.
لماذا كل هذا “الخوف” من الآخر، ومن هو الآخر؟ وعلى أي أساس يتم تصنيفه؟ العرق، الدين، اللون، الشكل، الجنس، الجنسية، اللغة؟ بمجرد أن تصنف الآخر تبدأ العنصرية بالظهور، ربما يقول البعض إنها دعوة للتخلص من الهويّة؟ كلا، ليست الهوية ما تجعلنا في صراعٍ مع الآخر... إن عدم رغبتنا في معرفة المشكلة (أي مشكلة) والاعتراف بها، وبالتالي عدم إخضاعها للنقد الموضوعي-(دون تحيز)-، فإن احتمالية معالجة أي منها، سيكون ناقصا وغير مجدي، وقس على ذلك...
ولكي تدرك تماما عزيزي المثقف أنك “نتيجة”، نتيجة مرجعيات، فِكر، أيدلوجية معينة... وعليه فإن الزاوية التي سترى من خلالها العالم والكون تتبع تلك المسببات التي قادت لهذه النتيجة والتي هي “أنت”...
لأن الوعي، ليس حالة من اليقظة أو الرؤية, بل هي حالة من البصيرة والإدراك لما هو أعمق من ذلك بكثير، الوعي الحقيقي، هو (محاولة) التجرد من الأفكار السابقة والتبعية العمياء التي من المحتمل ان تخلق بيئة عنصرية منغلقة على ذاتها، والذي يجعل من كل ذلك حاجزا منيعا وعائقا أمام الإنسانية وبالتالي التقدم والمعرفة، لأن التبعية العمياء تعني بالضرورة انعدام الفِكر، الإبداع، والابتكار.
من هنا تحديدًا نُدرك ماهية الثقافة في جوهرها بأنها أمر يتعدى الكُتب أو النخبة “المثقفة”..
ويفيد الشرح اللغوي في المفهوم العميق لمصطلح "المثقف"، أن المثقف هو شخص لا منتم هاوٍ عصيٌّ على الاستقطاب من قبل أية مؤسسة كانت؟!.. وهو ما يصلح على تسميته بالمثقف الكلاسيكي..
وهو -أي المثقف الكلاسيكي- يحمل العديد من الصفات الفكرية والنفسية التي تؤهله للقيام بدوره على أكمل وجه... فهو أنس النفسية التي تؤهله للقيام بدوره على أكمل وجه... وإنسان ذو قدرات فكرية مميزة... وهو صاحب رسالة أو مشروع يعمل على تمثيلها ونشرها في مجتمعه... وهو إنسان صاحب نظرة نقدية للأمور، وينطلق في ممارساته النقدية من أدوات ومعايير واضحة ترفض الكيل بمكيالين وترفض التحيز للقبيلة أو الجماعة وإن كانت ستقع بكل الأحوال، ولكن لا بد من مراقبتها والاعتراف بها والتخفيف منها قدر الإمكان... وهو إنسان محب للمغامرة، وقادر على التضحية بكل شيء في مقابل قوله للحقيقة وتبنيه لها... وهو إنسان قادر على التعاطف والتفاعل مع مختلف القضايا المجتمعية وتوثيقها وتشريحها بأمانة ودقة...
ومع هذا فيصعب اختزال دور المثقف أو تعريفه بصورة واحدة، فهو إنسان ذو هوية متفردة يتعامل مع كم هائل من القضايا والموضوعات بشكل دائم وضمن إطار من المعايير المحددة من تنوير وعدالة وحرية...
لكن وللأسف أمام تمييع الفعل الثقافي، سار البعض يرى في المثقف الكلاسيكي سيما حين برز في المجال الثقافي بمفهومه العام عدد من المثقفين اليوم هم أخطر وأعتى تأثيراً من ''أزمة الثقافة''... حتى أضحت هناك شرخ في فئة من المثقفين: "مثقف حر" و"مثقف عبد"؟...
فالفارق كبير بين أن تعيش طليعة إنسانية ووطنية مهمة أزمة حقيقية، فتعمل على تقصي أبعادها ومحاولة تجاوز آثارها، وبين أن تشكل الأزمة تلك الطليعة، لتحولها امتداداً لها، وتصبغها بملامحها، وتكسبها صفاتها، البعيدة كل البعد عن الوجه الأصيل النبيل للمثقف في وطننا العزيز ككل... حيث بات الحديث عن تراجع عام شامل في القطاعات كافة، وعلى الصعد كلها، مجرد تحصيل حاصل، وهو الأمر الذي كرّس استخدام عبارات بعينها وألفاظ عن ''الفساد'' و''التردي'' و''السقوط'' و''الأزمة''، باعتبارها المفردات اللائقة بوصف وضع اتفق الجميع على أنه ''الأسوأ على الإطلاق'' منذ بدأ الحديث عن الفساد والتساؤل عن الثروة...وفي هذا السياق برزت عبارات ''التأزيم'' المختلفة، بحيث يُتبع لفظ ''أزمة''بأي''مضاف إليه'' يمكن توقعه، فتستقيم اللغة ومعها المعنى والدلالة، من دون الحاجة إلى ذرائع أو تفسيرات، ومن ذلك الحديث عن ''أزمة الضمير''...ويمكن القول إن عددا من ''مثقفينا" اليوم باتوا كياناً واضح المعالم، مكتمل البناء، بشروط ومواصفات وأنماط أداء محددة... فقد أورثهم الاستبداد السياسي، ومعه التسلط المستمد قوته من التفسير الخاطئ للمواقف الاجتماعية، خوفاً تقليدياً يمكن تفهمه... وبات عدد من ''مثقفينا''، إلى ذلك، مأخوذين بالتطور الاقتصادي المادي في نزعاته الاستهلاكية، التي شهدت حدوداً قياسية من السفه والجنون أحياناً، فلجئوا إلى توظيف أرصدتهم العلمية والثقافية لزيادة نفوذهم الاجتماعي، وتعظيم مردودهم الاقتصادي، أو تحسين أوضاعهم السياسية، فانتهوا إلى عكس كل ما بدؤوا به، وبعدما كانوا مضرباً للمثل في العلم والخلق والوطنية أحياناً، صاروا إلى مصاف المستبدين في مختلف مواقعهم... وعف آخرون فقبضوا على مواقفهم تجاه السلطات الثلاث، بعضها أو معظمها، وراحوا يمولون بقاءهم من مصادر أخرى، من منظمات أجنبية وجمعيات مشبوهة والأنكى من دوائر التحكم تحت عناوين براقة، ومستعملين لغة تسفيهية، وجدل أجوف، ومستخدمين مصطلحات العمالة والتخوين، والجنون وتهم الترهيب والتخويف بدعوى المس بالمقدسات لكل رأي لا ينسجم مع عقلياتهم المسلوبة تحت ضغط الاستبداد والاستعباد والعبودية بلا إرادة ولا شعور وفي غياب تام للأحاسيس باحترام الذات... وعازفين عن أي فعل إيجابي يمكن أن يطرح بديلاً لائقاً لتبنيه والبناء عليه... ومتمرسين في أيديولوجيته، طالبين من نظرائهم الاصطفاف خلف تيارهم، وإعلان هوياتهم لا إعلان مبادئهم... يعاملون المجتمع كتابع مفترض ذليل، ويفترض فيهم الانضمام إليه والحديث برأيهم وربما استخدام تعبيراتهم، وهم جاهزون باتهام المتحفظ ب''البيع'' أو ''الانتهازية'' أو ''العمالة'' أو "الاكتئاب" أو"الانعزال"!؟!... وفي أفضل الأحوال ب''الاستلاب''و''السفه''و"ضعف الشخصية"؟!.. إن هم لم يتفقوا مع أطروحاتهم وأفكارهم... ولعمري لهو نموذج أخذ يستفحل في مواقعنا الاجتماعية والمجتمعية سعى ويسعى متبنوه إلى خلق فئة من المثقفين الجدد لتكريس ولميوعة سياسة الصمت في الوقت المفروض فيه التعبير وبلا قيود، باعتبار أن هناك ليست فقط خطوطا حمراء بل أيضا تعابير في مواضيع طابوهات من شأنها أن تفضح للمستور.للأسف إنها فئة جديدة من المثقفين الذين استلذوا العيش في حياة الاستعباد وتنكروا أو تناسوا أن أمهاتهم ولدتهم أحرارا!؟...
لذا وكخلاصة يمكن القول واعتبارا للعقل والقيم الإنسانية - ما دامت القيم الدنيئة تسود في ثقافتنا- إن الأسباب تتعدد لتبقى مهربا جاهزا لتبرير القرارات المعادية للقيم النبيلة والحقوق الطبيعية للإنسان...
فالثقافة القيم الدنيئة هي ما يتبوأ الصدارة بينما ثقافة القيم السامية تعيش شبه ضمور، تجلس في الصف الخلفي، خجولة وحائرة...
علينا أن نعترف أن ثقافتنا تفتقر إلى قيم الشجاعة والكرم والتسامح والمروءة وزد على ذلك من القيم التي نتبجح بها أمام العالم.
وعليه، وجب أن تسود ثقافة الحق والقانون... كما وجب التساؤل :أين هو المثقف في هذا المدى؟
فالمثقفون القريبون من السلطة منشغلون برضوانها مقابل مناصب أو السفريات أو بوعود لا تصل، ومنشغلون بحروبهم الخاسرة...
أما الذين حاولوا التجاسر وسولت لهم أنفسهم أو مبادئهم أن يمارسوا حرية الرأي حبا في الحقيقة فغالبا ما يدفعون الثمن وحدهم، ويعاملون كأعداء أو كخارجين على القانون، وهم يعدون على رؤوس الأصابع.
المثقف لا تقدمه المجتمعات خاصة في عالمنا العربي مثالا يحتدا به بقدر ما تقدمه عبرة لمن نسي أنه في بلد عربي!!!
ومع ذلك، على هذه الأرض ما يستحق النضال والتضحية.