قضية وموقف//
النفاق المكشوف والمصلحة الخاصة نقيضان لا يجتمعان أبدا
الفرق في
اغتصاب الحقوق، والاعتداء على الملكيات بين عدوٍ وصديق، وبين أخٍ وخصم، فكلاهما
معتدي، وكلاهما غاصب، ومقاومتهما واجبة، وانتزاع الحق منهما مشروعٌ ولازم، والسكوت
عنه وعدم المطالبة به، ذلٌ وخنوعٌ وخشوعٌ في غير محله، ولا يسقط حقٌ إلا
باستعادته، أو بالتنازل عنه حراً بإرادةٍ مستقلة، وإلا فإن الحقوق لا تموت، ولا
تنسى ولا تهمل، والقوي لا تدوم قوته، والضعيف لا يبقى ضعيفاً أبداً، فالمبدأ
والمصلحة الخاصة نقيضان لا يجتمعان أبدا، فإن اجتمعا كان ذلك مؤشر على النفاق
المكشوف المبني على وسيلة خداع من أجل تحقيق المصالح الخاصة... هذا
كتاب الزمان وسجل الحياة بيننا شاهدٌ ودليلٌ ....
قيمة
الإنسان ليست في مركزه، وتقديره ليس في منصبه، إنما المنزلة في مقامه الإنساني،
وقيمته الوجودية، التي تقوم على الخلق والنبل والفضيلة، فمن ظن أن المنصب تقديرٌ
فقد أخطأ، ومن اعتقد أن القيمة ترتبط بالصفة والمركز في جانب الصواب، فالرجال قيمة
في ثوابتهم ومواقفهم، وعظمة في كلماتهم وعهودهم، ومثالٌ وقدوة في حياتهم وسلوكهم،
وأشباه الرجال الذين يملأون البقاع والبطاح، ويعيشون في السهل والجبل والوادي،
يدعون العظمة، ويتظاهرون بالرجولة، وهم أكثر من يعرف أن الكراسي تسندهم، والمواقع
تشد ظهرهم، يغتابهم الناس إذا غابوا، فلا حرمة لهم، ويلعونهم إذا عُزلوا أو
استقالوا، فلا حصانة تحميهم، ويتخلون عنهم إذ اتهموا وحوسبوا أو حوكموا، فلا منصب
يشفع لهم، ولا سمعة طيبة تمنعهم، ويبقى الرجال ولو كانوا فقراء معدمين، لا منصب
لديهم ولا وظيفة عندهم، يذكرهم الناس إذا غابوا، ويتنافسون في مديحهم، ويحترمونهم
إذا حضروا، ويبالغون في تقديرهم، وإظهار الحب والولاء لهم، إنهم الرجال الذين
نريدهم ونبحث عنهم.
لقد كان
العرب في جاهليتهم يصنعون أصناماً من عجوة، فإذا جاعوا أكلوها، وانتهوا منها، فلا
تعود قائمة فتعبد، ولا موجودة ولها يُسجدُ، ولا يخافون منها، ولا يخشون من غضبتها،
ولا يرتعدون من سطوتها.
لكنهم
اليوم يصنعون أصناماً من البشر، يصعب أكلها، ويستحيل إنهاؤها، أو التخلص منها، فإن
هم طالبوا بحقوقهم، أو اعترضوا على سياساتهم، أو صرخوا معلنين جوعهم، فإن أصنامهم
التي صنعوها، وجاؤوا بها، وصفقوا لها، وتغنوا بعبقريتها، وأشادوا بأستاذيتها،
فإنهم يسلخون جلودهم، ويقطعون أوصالهم، ويحزون رؤوسهم، ويتهمونهم بالعنف والإرهاب،
ومن بقي منهم على قيد الحياة، فإنه يبقى أسيراً مهاناً، أو حراً ذليلاً، أو طريداً
مطلوباً، أو هارباً منفياً.
ترى
أيُنا الجاهل؟ نحن أم هم، وأيُ الجاهليتين
أشد وأنكى، جاهلية العرب الأولى، أم جاهليتهم في القرن الحادي والعشرين وما قبله.
فقدرة
الإنسان على الافتراء عجيبة وغريبة، يختلق الحقائق، ويلصق الاتهامات، ويوزع
الشبهات، يظلم ويتهم ويشوه، ويزور ويكذب ويدلس، يصور له خياله، أو يصور لخياله ما
يريد، يعينه الشيطانُ على كذبه، أو يعين الشيطانَ على خياله، يستهويه المرض،
ويعجبه الفساد، ويغريه الشذوذ، يحب أن تشيع الفاحشة، وتسود الرذيلة، يحب الظلم
ويسعى له، ويخشى الحق ويهرب منه، يعشق الشر ويخطط له، ويكره الخير ويبتعد عنه،
يبحث عما يدين ويشوه، ويستبعد كل ما يبرئُ ويطهر، يستقوى بأمثاله الكاذبين،
ويبحث عمن يعزز افتراءاته من الضالين المضلين.. عجيبٌ أمرُ هذا الإنسان! كيف ينسج
له خياله الأكاذيب؟ وكيف يبيح له ضميره الكذب والدجل؟ ويرضى لنفسه أن تكون أمارةً
بالسوء، مريضةً بالفحش..كيف تطيب له الحياة؟ وقد حرم صاحب حقٍ من حقه، وسرق من
مستحقٍ ما له.. وكيف يرتاح ضميره؟ وهو يعلم أنه كاذبٌ مفتري، وأنه شهد بالباطل
وأقسم بالله كذباً.. هل تطيب له لقمة العيش؟ وهو يعلم أنها ممزوجة بدماء من ظلمهم،
ولعنة من حرمهم، كيف تسول له نفسه أن يفتري على الناس؟ ويكذب عليهم أو على ألسنتهم؟
افتراءات الإنسان على أخيه الإنسان ليست بسيطة،
أو عديمة الأثر؟!.. إنه بافترائه يظلم ويؤذي، ويضر ويسيء، ويشوه ويزور، ويهدم
ويخرب، يشوه السمعة، ويضر بمصالح الناس، ويدمر مستقبل الكثير، لكن المفتري ما علم
أن عاقبة الافتراء وخيمة، وخاتمة الظلم سخيمة، وأن الله لا يقبل أن تشيع الفاحشة
في صفوف الذين آمنوا، وأن الظلم مهما طال فهو إلى زوال، فالله ناصرٌ عبده، نافذٌ
وعده، عدلٌ قضاؤه، وحقٌ انتقامه، فهو سبحانه منتقمٌ من الظالم وضاربٌ على يده،
ومنتصرٌ لصاحب الحق وآخذٌ بيده...